فتنة التشرد على رصيف باريسي

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
23/10/2008 06:00 AM
GMT



كلما مررت بالمرأة المشردة وجدتها شبه مسحورة تتصفح المجلات والجرائد أو مستغرقة بقراءة كتاب أو منشغلة بحل الكلمات المتقاطعة، وعندما تتصفح الجرائد تبدو وكأنها تحلل تصريحات الساسة تسخر من انباء انهيار أسواق المال العالمية وتنقب عما وراء الأخبار والأحداث كما تتراءى لها من عرشها الورقي وضياعها، ثم أراها تشاكس المارة من على الرصيف، أو تعلن آراء وتعليقات قاسية عن البشر والسلطة ثم تعود لتغرق في طبقات مقامها الورقي الذي هو بمثابة سرير ومأوى وعرش ودثار ومكتبة متواشجة مع جسد صاحبتها البدين وثيابها الرثة ونظراتها الحانقة ..
إزاء أقرانها من المشردين الجوالين تبدو مشعة بفتنة الامتلاك -وكل أمر نسبي- ان تملك وسط عالم التشرد المهين في المجتمع الاستهلاكي خصوصية ما، حتى لو كانت فراشا من صحف يتجدد كل يوم بعشرات النسخ من الصحف والمجلات وطبعات الإعلانات التجارية، الأهم أنها تملك موقعا على الرصيف سمحت به بلدية المدينة..
تبدو المرأة المشردة هي وأسمالها وصحفها وكتبها وقطع الكارتون بعلاماتها التجارية وأكياس البلاستك الملونة نصا بليغا عن قسوة مجتمع الاستهلاك وانسحاق الإنسان أمام سطوة عالم السوق، وليس مصادفة أن تتخذ هذه المرأة مهجعها مقابل مراكز تسوق استهلاكية شهيرة قرب جسر غرينيل في الدائرة الخامسة عشرة من باريس حيث تحتل مكانا استراتيجيا على الرصيف منذ سنوات لتصير معلما من معالم المنطقة، ويشكل غيابها خللا في المشهد اليومي للشارع وكأن ضياعها المعلن ضرورة منطقية لتأكيد رفاهية العمائر الشاهقة المطلة على السين في شموخها الطبقي ومفارقتها لحياة مشردي وفقراء العاصمة الفرنسية المتزايدين ..
المفارقة أن المرأة المشردة التي تبدو في الخمسينيات من عمرها لا تقر بهزيمتها وانحدارها، فهي تحدق بصور النساء الجميلات على أغلفة المجلات من ممثلات وعارضات أزياء مبهرجات وتقلدهن وتحرص كل صباح على تلوين وجهها بالأصباغ الفاقعة أو تضع على رأسها شريطا مزينا بريش ملون كراقصات المولان روج، أو تعتمر قبعة عتيقة مزينة بالزهور، ولا تنسى، وهي المهجورة المتحولة الى مجرد مخلوق هامشي، أنها امرأة وعليها ان تسوّق صورتها الأنثوية كما لقنتها ثقافة المجتمع الاستهلاكي السلعي، وتبدو بلا ذاكرة ولا غد لأنها مهمومة بتلفيق لحظتها العابرة ونسيانها في اللحظة التالية ..
مراسل إحدى محطات التلفزة الفرنسية التقى هذه المرأة وسلط الأضواء عليها، وبدت في الحوار امرأة ساخرة اختارت ان تعيش على هامش المجتمع الذي لا تكن له الاحترام لزيفه وكذبه، ثم كانت المفاجأة الكبرى حين اعترفت بان لها رصيدا في أحد البنوك المجاورة يتجاوز الخمسين الف يورو جمعتها من التسول والمعونة الاجتماعية، ولم تكن تنفق سنتا واحدا من حصيلتها بل تتسول طعامها من المطاعم والمارة، وترتدي الأسمال التي تعثر عليها في النفايات، وحين سئلت عما ستفعله بالمال، قالت لا تتدخلوا في شؤوني الشخصية ذلك سر ستعرفونه في حينه، وقيل حينها: لربما كانت تواصل سخريتها من العالم وتضحك من غفلة الآخرين ازاء فكرتها الخاصة عن المال في المجتمعات المعاصرة.
كنت أتحاشى إلقاء التحية على هذه المرأة، فقد تفاجئني بردة فعل غير متوقعة حسب مزاجها على العكس من مشرد عجوز ذي نزعة فنية اتخذ له ركنا في ممر مرآب العمارات قرب رصيف المرأة المشردة الذي كان ينحني بتهذيب جم كلما حياه أحد المارة، هذا الرجل جمع حوله تحفا وآلات موسيقية ووسائد وادوات مائدة ولوحات مزيفة وألعاب أطفال محطمة وأحذية ثمينة ممزقة وتماثيل لبوذا، ولا تراه إلا منهمكا بتنسيق فردوسه العابر من بقايا ثقافات متباينة آسيوية وغربية هي حطام نتاج السبعينيات وما تلاها: موسيقى جاز وروك وفن تشكيلي وأزياء وكتب رثة وملصقات فنية وسياسية -أحدها لغيفارا- تصنع للمشرد الغفل حاضرا مشوشا بمشهد ما بعد حداثي، لعل الرجل يحاول عبره تلفيق ذاكرة توصله بالزمان وتوهمه بامتلاك المكان إلى حين.